ما أن تقرأَ عن منافع الصيام في كتاب أو مقال أو موقع للإنترنت إلا وتجد أنَّها تشير إلى أنَّ الصومَ يخلِّص الجسمَ من السُّموم الموجودة فيه ويطرحها للخارج, وهو بذلك يريح الجسمَ من الآثار المحتملة لهذه السموم، والتي يُقال إِنَّها قد تكون عاملاً من عوامل حدوث السرطانات المختلفة في الجسم التي كثرت في الأزمان المتأخِّرة. كما أنَّها قد تكون عاملاً في نشوء أمراض وعلل أخرى حارَ فيها الأطبَّاء.
وكثيرٌ ممَّن كتبوا في هذا المجال ينقلون من كتابات بعض أطبَّاء الطب البديل قولَهم مثلاً: (إنَّ كلَّ إنسان يحتاج إلى الصيام، وإن لم يكن مريضاً، لأنَّ سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، وتُثقِله ويقلُّ نشاطُه؛ فإذا صام، خفَّ وزنُه وتَحلَّلت هذه السمومُ من جسمه، وذهبت عنه، ليصفوَ بعدَ ذلك صفاءً تاماً).
وممَّن توسَّع في شرح هذا الدكتور الفاضل عبد المجيد الصاوي في كتابه الماتع “الصيامُ معجزة علمية”.
فما قصَّةُ السُّموم هذه؟ وهل يخلِّصنا الصومُ حقيقةً منها؟
مصادر السموم في جسم الإنسان
فلنبدأ أوَّلاً بذكر مصادر السموم في جسم الإنسان:
1) الهواء الملوَّث
فالهواءُ مليءٌ بالسُّموم التي نستنشقها، من عوادم السيَّارات، وغازات المصانع وغيرها، وهذا يختلف من بلدٍ لآخر ومن مكان لآخر.
2) الغذاء والماء
سواءٌ أكان من المواد التي تُضاف للأطعمة، في أثناء زراعتها وتربيتها بالكيماويات، أو في أثناء طهيها، أو تصنيعها، بإضافة النَّكهات، والألوان، ومضادَّات الأكسدة، والمواد الحافظة.
3) الجراثيم والمكروبات
من الجراثيم والفيروسات والفطريَّات الكثيرة في الكون، والتي تدخل أجسامَنا كلَّما سنحت لها فرصة! وما تنتجه من مُفرَزات سامَّة.
4) مخلَّفات التفاعلات الكيميائية في الجسم
فأكسدةُ المواد الغذائية (البروتينات والدهون والكربوهيدرات) يَنتُج عنها مجموعةٌ من المواد السامَّة، مثل اليُوريا والكرياتينين والأمونيا (مركَّب النِّتروجين) وغاز ثاني أكسيد الكربون والصفراء والكيتونات وغيرها.
الأيونات الحرَّة -(Free radicals) O2: وقد بدأ الاهتمامُ بها يزداد أخيراً، لما يُعتقَد أنَّها تُفسِد بعضَ التفاعلات الكيميائية في الجسم. وهي أيونُ أكسجين حرٍّ عالي الأكسدة، ينتج من عدَّة مصادر منها الأشعَّة فوق البنفسجية.
نواتج التخمُّر في القولون: فالغذاءُ حينما يصل إلى الأمعاء الغليظة (القولون)، تحصل له عملية تخمُّر جرثومي بفعل الجراثيم المتوطِّنة في القولون، وينتج عن هذا التخمُّر مركَّبات مثل الأندول والفندول، التي يُعتقَد بعضُ العلماء أنَّها ربَّما تكون سامَّة.
5) بعض الأدوية التي يتناولها الناسُ بغير ضابط، وبغير وصفة طبِّية.
كيف يتعامل الجسم مع هذه السموم
إنَّه حديثٌ طويل جداً عن جهاز الإخراج وجهاز المناعة العجيب الذي خلقه الباري لنا، ولعله تتاح فرصة لإفراد كتاب خاص له، فهو بذلك جدير. والذي يهمُّنا هنا أن نشيرَ باختصار إلى كيفيَّة تعامل الجسم مع هذه السُّموم.
حين توجد أيَّةُ مادَّة سامَّة:
تهجم عليها كريَّات الدم البيضاء
وهي خمسةُ أنواع: العَدِلات Neutrophils والبَلاعِم Macrophages واللِّمفاويَّات Lymphocytes واليُوزينيَّات (الحَمِضات) Eosinophils والقَعِدات Basophils.
وقد أمرَ الباري سبحانه الكريَّاتِ البيضَ أن تجولَ على مدار الساعة في كلِّ مكان في الجسم، ووهبها خاصيَّةً مُميَّزة تُمكِّنها من معرفة الأجسام الغريبة من المواد السامَّة والجراثيم والخلايا التالفة وتمييزها من السَّليمة، وذلك بتحسُّس جدران الخلايا والأجسام الموجودة في الجسم، فتعرف بذلك الجسمَ الطبيعي من الجسم الغريب.
وتؤدِّي هذه الخلايا مهمَّتَها على النحو التالي:
– تبتلع الجسمَ الغريب ثمَّ تهضمه (تأكله) وتحلِّله إلى أجزائه الأولية: سكَّر وأحماض أمينية وغيرها، ليستفيدَ منها الجسم!
– فإذا لم تقدر على هضمه وتحليله، فإنَّها تبتلعه وتأسره وتعطِّل نشاطَه، وتغلِّفه بغلاف لا يخرج منه أبدَ الدهر!. وهذا أكثر ما يحصل مع السُّموم غير العضوية، كسموم الهواء الملوَّث والجسيمات المعدنية والأصباغ وغيرها.
– وقد تُطلِق عليه موادَّ كيميائيةً مبيدة، وفي الجسم أنواعٌ كثيرة من مبيدات السموم!
– وقد تنتج الأجسامَ المضادَّة (الأضداد) Antibodies، وتطلقها ضدَّ الجراثيم وغيرها من الأجسام الغريبة، وهذا الدورُ تقوم به خلايا النوع (ب) من اللِّمفاويَّات.
– وبعض الخلايا متخصِّصة في مهاجمة الفيروسات والخلايا السرطانية، وهي خلايا النوع T اللمفاويات التائية من اللمفاويات، وبعضها متخصِّصٌ في مهاجمة الديدان وهي الحَمِضات.
البَلاعم أو البلعميَّات الكبيرة Macrophages مشهورةٌ لدى العلماء، ويسمُّونها الأكولة، لأنَّها كبيرةُ الحجم، ويصل عمرها لعدَّة سنوات، وتظلُّ تدور في الدم؛ فإذا صادفت جسماً غير طبيعي، وكان من تعاسة حظِّه أن اصطدمَ بها، فإنَّها تبتلعه بلقمةٍ واحدة، في أقلَّ من عُشرِ عُشرِ الثانية (0.01).
مقاومة السُّموم داخل الخلية
لو حصل أن تمكَّنَ جسمٌ غريب من الانفلات من الخلايا البيض، وهجم على خلية من الخلايا ودخلَها، فالويلُ لأمِّه!، إذ قد جعل اللهُ تعالى في داخل كلِّ خلية من جسمنا أكياساً هاضمة تُدعى الليزوزومات أو اليَحلولات Lysosome والأجسام البيروكسيَّة Peroxisomes، تحوي داخلها إنزيمات هاضمة كتلك التي تهضم الطعامَ في الجهاز الهضمي.
إزالة السمِّية في الكبد
تقوم الكبدُ بعملية إزالة السمِّية Detoxification لكثير من المواد السامَّة، وذلك حينما تصل إليها هذه الموادُ عبرَ الدم، سواءٌ أكانت قادمةً من الأمعاء عن طريق الوريد البابي حاملةً معها ما جرى امتصاصُه من الغذاء المهضوم، أو كانت هذه الموادُّ السامة محمولةً للكبد عبر الدورة العامَّة للدم، حاملةً معها مخلَّفات التفاعلات الكيميائية.
طرد السُّموم عن طريق أجهزة الإفراغ
يطرد الجسمُ كثيراً من السُّموم للخارج فيرتاح منها، ومن أشهر هذه السُّموم غاز ثاني أكسيد الكربون السام، حيث يُخرِجه الجسمُ بالتنفُّس. أمَّا الجهدُ الكبير في إخراج السموم فيقع على الكلى، حيث إنَّها تنقِّي الدمَ الذي يمرُّ فيها من السموم، وتُخرِجها عبرَ البول. كما يقوم الجهازُ الهضمي بدوره في إخراج الجراثيم عندما تتكاثر عليه في الأمعاء، فإنَّه يصب عليها مُفرَزاته الكثيرة فتنجرف مع الإسهال للخارج!
ومن وسائل الإفراغ اللطيفة ما يقوم به العَرَق، حيث يُخرج كمِّيات – وإن كانت قليلة – من بعض المواد السامَّة.
عندَ الحواجز الخاصَّة لبعض الأعضاء
مع كلِّ الاحتياطات الأمنية المكثَّفة السابقة، إلاَّ أنَّ بعضَ أعضاء الجسم وخاصَّة المخ يخاف أن ينفدَ أحدُ السُّموم بجلده!، ولذا جعل اللهُ سبحانه حولَه غِشاءً دقيقاً وحسَّاساً، يحوط المخَّ من جميع الجوانب، ولا يسمح بدخول السموم عليه.
إذن، فالأمرُ ليس هزلاً ! وقد زوَّد اللهُ سبحانه الجسمَ بكلِّ ما يحتاج إليه للقيام في هذه الحياة.
هل تتكدَّس السمومُ في الجسم؟
ذكرنا أنَّ خلايا الجسم إذا لم تَقدر على هضم الجسم الغريب وتحليله، فإنَّها تبتلعه وتأسره وتعطِّل نشاطَه، وتغلِّفه بغلاف لا يخرج منه. وهذا يحصل في كثير من خلايا الجسم، في أماكن متفرِّقة منه.
كيف يساعدنا الصومُ على التخلُّص من السموم؟
الأمرُ ليس قطعياً ولا واضحاً من الناحية العلمية، وهناك حاجةٌ إلى مزيد من الدراسات، لكن هناك بعض التفسيرات النظرية كالتالي:
1) الصيام يطلق السمومَ من الدهون المختزنة (حالة الكيتونية)
ينصُّ هذا التفسيرُ على أنَّه تجري في الصيام أكسدةُ كمِّيات هائلة من الشحوم المختزَنة في الجسم، وبذلك تُستخرَج منها السمومُ الذائبة فيها، وتُزال سُمِّيتُها، ويَتخلَّص منها مع فضلات الجسد. ويطلق على هذه الحالة “حالة الكيتونية” أو “الحماض الكيتوني Ketosis/Ketoacidosis”. وهذا التفسيرُ يقول به أنصارُ الطبِّ البديل، ويعتمدون عليه كثيراً.
وبعضُهم، بل كثيرٌ منهم، يرى أنَّ فائدةَ الصيام لا تحصل للصائم إلاَّ بالوصول إلى مرحلة الكيتونية هذه. وهي تعني باختصار أكسدةَ كمِّيات كبيرة من الدهون بالصيام، ولمدَّة كافية حتَّى تَنتُج عنها مادَّةٌ تُسمَّى “الكيتونات” أو “الأجسام الكيتونية ketones/ keton bodies”.
وهم يؤكِّدون على أنَّ هذه الحالةَ لا تتحقَّق إلاَّ في صيام الماء الطويل المديد، لأنَّه هو الذي تحصل فيه أكسدةُ الدهون بكمِّيات كبيرة. أمَّا الصيامُ القصير أو المتقطِّع، ومنه الصيام الإسلامي، فإنَّ الجسمَ لا يصل فيه إلى مرحلة الكيتونية، لأنَّه لا يجد نفسه مضطراً لأكسدة الدهون وإطلاق مادَّة الكيتونات الضارَّة.
وهذا التفسيرُ هو أحد التناقضات الصارخة بين الطبِّ الحديث والطبِّ البديل؛ فالأطبَّاء يَرَون في حالة الحموضة الكيتونية حالةً مرضية! يجري الكشفُ عنها بالتحاليل، وتَستدعي التدخُّلَ السريع، لأنَّ الكيتونات نفسها موادُّ ضارَّة، إذا زادت نسبتُها في الجسم.
ثمَّ إنَّ هذا التفسير تغلب عليه الإنشائية، بل إنَّ النظر المنطقي ينقضه! حيث إنَّ أكسدةَ مخزون الدهون يعني – من الناحية النظرية على الأقل – وجودَ السموم المحرَّرة بكمِّيات كبيرة في الدم في وقت قصير، فيزداد العبءُ على الجسم ولا يقلُّ!. وبعضهم يقول إنَّ إطلاقَ السموم حالةٌ مؤقَّتة وضرورية، ثم يتخلَّص منها الجسمُ بسرعة وكفاءة.
وأظنُّ أنَّنا لسنا مضطرين للأخذ بهذا التفسير، حتَّى تكشفَ لنا دراساتٌ علمية معتمَدة ما خفيَ علينا من بديع صنع الباري سبحانه.
2) الصيام يقوي المناعة
وهذا تفسيرٌ جرى طرحُه كبديلٍ أكثر منطقية عن التفسير الأول، في شرح دورِ الصيام في مقاومة السموم. لكنَّه للأسف لم يتأكَّد حتَّى الآن (يمكن مراجعة ذلك في موضوع الصيام وتقوية المناعة).