هو سُلَيمانُ بن حَسَّان الأندلسي، أبو داود، من أهل قرطبة، يُعرَف بابن جُلجُل. نبغَ في أواسط القرن الرَّابع للهِجرة والقرن العاشِر الميلادي. كان طَبيباً ومؤرِّخاً فاضِلاً خبيراً بالمعالجات، جيِّدَ التصرُّف في صناعة الطبِّ، وعاشَ في أيَّام هشام المؤيَّد باللَّه، وخدمَه بالطبِّ، وكانت له بَصيرةٌ واعتناء بقوى الأدوية المفردة.
اهتمَّ ابنُ جُلجُل بالتَّراجم، فألَّفَ كتاباً نالَ بعدَه شهرةً عظيمة، ويعدُّ من الكتب المصادِر في تاريخ العلم العربِي، وهو طبقاتُ الأطبَّاء والحُكَماء. ولابن جُلجُل رسالةً ناقشَ فيها السَّابقين عليه من الأطبَّاء في بعض المسائل الطبِّية، وهي التَّبيين فيما غلطَ فيه بعضُ المتطببِّين ومقالة أخرى عن التِّرياق لعِلاج السُّموم، بحثَ
فيها عن جَميع المعلومات عن أصل التِّرياق وتركيبه، وقد عدَّد فيها العقاقيرَ التي تدخل في تَركيبِ التِّرياق وأَوصافها وأنواعها وأمكنة وُجودِها.
صَنَّفَ ابنُ جُلجُل كتباً كثيرة، ومنها الكتبُ والرَّسائل التَّالية:
– طَبقاتِ الأطبَّاء والحكماء.
– تَفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس.
– مقالة في ذِكر الأدوية التي لم يذكرها ديسقوريدس.
– رسالة التَّبيين فيما غلط فيه بعضُ المتطبِّبين.
– استدراك على كتاب الحشائش لديسقوريدس.
– مقالة في أدوية التِّرياق.
اهتمَّ ابن جُلجُل اهتِماماً خاصاً بكتاب الحَشائش لديوسقوريدوس، فعَمل على شَرحِه وتفسيره والتَّعليق عليه، لاسيَّما على أسماء الأدوية، وذلك في أكثر من مؤلَّف؛ ويعدُّ الأوَّلُ منها ذيلاً لترجمة حنين بن إسحاق لهذا الكتاب. كما ترجمَ عدَّةَ مُصنَّفات طبِّية، منها كتابُ الأدوية البَسيطة لديسقوريدس اليوناني.
وعَدَّد في مقالةٍ له (مقالة في ذِكر الأدوية التي لم يذكرها ديسقوريدس) مَجموعةً من الأدوية المستخدَمة في الطبِّ لم يذكرها ديسقوريدس في كتابه الحشائش، وفيها دراسةٌ استِقصائيَّة عن تلك الأدوية وتاريخها وجذورها وأسمائها.
وله كتابُ تفسير المقالات الخمس من كتاب ديسقوريدس، وقد وضعَ ابنُ جُلجُل في هذا الكتاب أسماءَ الحشائش والأدوية وما يقابلها بالبربريَّة والرُّومية المستخدَمة في المغرب والأندلس للتعرُّف إليها. وقد وضعَ هذا الكتابُ في قرطبة، ويُرجِع مؤرِّخو العلوم أهمِّيةَ هذا الكتاب لأمرين: الأوَّل أنَّه كان من المصادر الأساسيَّة في الصيدلة للعلماء التالين لابن جلجل، والثاني المعلومات الدَّقيقة التي ذكرها ابن جُلجُل عن كتاب الحشائش وطريقة دُخوله إلى الأندلس والتعرُّف إليه.
ويقول ابنُ جُلجُل في كتاب ديسقوريدس عن الحشائش أنَّه كان “بالتَّصوير الرومي العجيب، وكان الكتابُ مكتوباً بالإغريقي الذي هو اليوناني … فيه أخبار الدُّهور وقصص الملوك الأول، وفوائد عظيمة … لا تُجتَنى فائدتُه إلاَّ برجل يحسن العبارةَ باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص تلك الأدوية”. قال ابنُ جُلجُل “ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يقرأ اللسان الإغريقي الذي هو اليوناني القديم، فبقي كتابُ ديسقوريدس في خزانة عبد الرحمن الناصر باللسان الإغريقي، ولم يُترجَم إلى اللسان العربي، وبقي الكتابُ بالأندلس”. وبعد ترجمة الكتاب إلى العربيَّة، وقراءة ابن جلجل له، لاحظَ النقصَ فيه، فكتب مقالةً في ذكر الأدوية التي لم يذكرها ديسقوريدس في كتابه ممَّا يُستعمَل في صناعة الطبِّ ويُنتَفع به، وما لا يُستعمَل لكيلا يُغفَل ذِكرُه. يقول ابنُ جلجل “إنَّ ديسقوريدس أغفلَ ذلك، ولم يذكره، إمَّا لأنَّه لم يره ولم يشاهده عياناً، وإمَّا لأنَّ ذلك كان غيرَ مستعمَلٍ في دهره وأبناء جنسه”.
وذكرَ ابنُ أُصَيبعة في كتابِه “عُيُون الأنباء في طبقات الأطبَّاء” أنَّ ابنَ جُلجُل قال: “… وكان لي في معرفةِ تَصحيح هَيولى الطبِّ، الذي هو أصلُ الأدوية المركَّبة، حِرصٌ شَديد وبحث عظيم، حتَّى وَهبني اللَّهُ من ذلك بفضله بقدر ما اطَّلَع عليه من نِيَّتي في إِحياء ما خفتُ أن يُدرس وتذهب منفعتُه لأبدان الناس، فاللَّه قد خلق الشِّفاءَ وبَثَّه فيما أنبَتته الأرضُ، واستقرَّ عليها من الحيوان المشاء، والسَّابح في الماء والمنساب، وما يكون تحت الأرض في جَوفِها من المعدنيَّة، كلُّ ذلك فيه شفاءٌ ورحمة ورفق …”.
ويذكر ابنُ جُلجُل في مقدِّمة كتابه طَبقاتِ الأطبَّاء والحكماء أسماءَ بعضَ المراجِع التي اقتبسَ منها، وهي كتابُ “الألوف” لأبي معشر الفَلكي وكتاب “هروشيش Urosios” صاحِب القِصص، وكتاب “القراونقة Chronica” ليرونيم الترجمان. وقد قسَّم ابنُ جُلجُل الأطبَّاءَ والحكماء الذين تكلَّم عنهم إلى تسع طبقات، أوَّلها طبقةُ الهرامسة الثَّلاثة، وآخرها طبقةُ الأطبَّاء الأندلسيين.
لقد كانَ لابن جُلجُل الفضلُ في تعريف المؤرِّخين بما قيل في تاريخ الطبِّ والأطبَّاء منذ أقدم العصور؛ وقد اقتبسَ منه أشهر من ألَّف في هذا الموضوع، ومنهم جمالُ الدين القفطي وابنُ أبي أُصَيبعة وغَيرهما.