ابن أبي أصيبعة

هو مُوفَّق الدِّين أبو العبَّاس أحمد بن سَديد الدِّين القاسِم، سَليل أسرةٍ عربيَّة ثَريَّة اشتُهرت بالطبِّ والأدب، في أيَّام الحُكم الأيُّوبِي، مارسَ بعضُ أفرادها الطبَّ وبرعوا فيه، كما عُرِفت بمحبَّة العلوم والأداب. وكان لها صِلاتُها الجيِّدة بالملوك في الشَّام ومصر، فتوفَّرت للعالم مُوفَّق الدِّين أسبابُ التَّحصيل، وموفَّقُ الدِّين هو أشهرُ أفراد هذه الأسرة، وإليه يُصرَف الانتباهُ إذا ذُكِر ابنُ أبِي أُصَيبعة في كتب المؤرِّخين والكتَّاب.وُلِد ابنُ أبِي أُصَيبعة بدمشق سنةَ 595 هـ/1200 م، وكُنِّيَ بأبِي العبَّاس قبلَ أن يُطلِقَ عليه لقبُ جدِّه ابنُ أبِي أصيبعة، وهو أشهرُ أفراد أسرته. قرأ علمَ الطبِّ على رضيِّ الدِّين الرَّحبِي، والعُلوم الحكميَّة على رفيع الدِّين الجبلي، وعلم النَّبات والعَقاقير على ضِياء الدِّين عبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار. كما أخذ الطبَّ والكحالةَ عن أبيه سَديد الدِّين.

مارسَ الطبَّ مُتمرِّناً في البيمارستان النُّوري، الذي كان يرأسُه الطبيبُ الشَّهير مهذَّبُ الدِّين عبد الرحيم بن علي الدِّمشقي، المشهور بابن الدِّخوار، ثمَّ انتقلَ إلى القاهرة، فطبَّب في البيمارستان النَّاصري سنةَ 631 هـ، وفيه استفادَ من دروس السَّديد ابن أبِي البيان، الطبيب الكحَّال ومؤلِّف كتاب الأقرباذين المعروف باسم “الدُّستور البيمارستانِي”، وأخيراً عادَ إلى دِمشق سنةَ 634 هـ ليتابع تَطبيبَه في البيمارستان النُّوري. وفي ربيع الأوَّل سنةَ 634 هـ/1236 م، انتقل إلىَ صرخد (صلخد اليوم) ليعملَ في خِدمة أميرها عزِّ الدِّين أَيبَك المعظَّمي، وتُوفِّي فيها. وبذلك، نشأَ ابنُ أبِي أُصَيبعة في بيئةٍ حافلة بالدَّرس والتَّدريس، والتَّطبيب والمعالجة، حيث درسَ في دمشق والقاهرة نظرياً وعملياً.

اشتُهر ابنُ أبِي أُصَيبعة بكِتابه الذي سمَّاه “عيونَ الأنباء في طَبقات الأطبَّاء” والذي يعدُّ من أمَّهات المصادِر لدراسة تاريخ الطبِّ عندَ العرب. ويُستَشفُّ من أقوال ابن أبِي أُصَيبعة نفسه أنَّه ألَّفَ ثلاثةَ كتبٍ أخرى، ولكنَّها لم تصل إلينا، وهي:

كتابُ حِكايات الأطبَّاء في عِلاجات الأدواء.

كتاب إصابات المنجمين.

كتاب التَّجارُب والفوائِد.

استَهلَّ ابنُ أبِي أُصَيبعة كتابَه “عيونَ الأنباء في طَبقات الأطبَّاء” بمقدِّمةٍ فلسفيَّة ودينية واجتماعية، تناولَ فيها مَكانةَ الطبِّ بين العُلوم والصِّناعات المختلفة، والكتاب مرتَّبٌ في خمسة عشر باباً بحسب بلاد الأطبَّاء وتَعاقُب طبقاتهم؛ وقد جعلَ البابَ الأوَّل للحديث عن كيفيَّة وجود صناعة الطبِّ وأوَّل حُدوثها، ثمَّ تَحدَّث عن طبقات الأطبَّاء الذين كانت لهم مؤلَّفاتٌ في صناعة الطبِّ، وتحدَّث عن الأطبَّاء اليونانيين، ثمَّ استوفى الحديثَ عن الأطبَّاء في الديار الإسلامية، ورتَّبهم بحسب أقاليم الدولة الإسلاميَّة المشرقيَّة منها والمغربيَّة. وأصبحَ مَرجِعاً أساسياً في تاريخ الطبِّ.

ويعدُّ كِتابُ ابن أبِي أُصَيبعة هذا أشملَ الكُتُب التي وُضِعت في تاريخ الطبِّ والأطبَّاء، قبلَ الإسلام وبعدَه، وهو مَوسوعةٌ نقلَ فيها المؤلَّفُ مَعلوماتِه عن مَشاهير عصره، جامعاً ما تفرَّقَ في الكتب الكثيرة عن حُكماء القدماء وعُلَماء العَرب والإسلام الذين عملوا بالطبِّ، من عَهد الإِغريق والرُّومان والهنود إلى عام 650 للهجرة. والكتابُ مُقسَّمٌ إلى خمسة عشرة باباً، يتكلَّم في الباب الأوَّل منه عن صناعة الطبِّ، ومن ثمَّ يذكر في الأبواب المتبقِّية عن طبقات الأطباء على اختلاف زمانهم ومكانهم. وتحتوي الموسوعةُ على ترجمةٍ لما يزيد على 400 طَبيب وحكيم من كبار عُلَماء الإغريق والرُّومان والهنود والعَجم والسريان والنَّصارى وأطبَّاء فارس والعراق والشَّام ومصر والمغرب العربِي والأندلس.

يَقولُ ابنُ أبِي أُصَيبعة عنه كاتبه في مقدِّمة الكتاب:

“وقد أودعتُ الكتابَ أيضاً ذكر جماعةٍ من الحكماء والفلاسفة ممَّن لهم عناية بصناعة الطبِّ، وجُمَلاً من أحوالهم ونوادرهم وأسماء كتبهم، وجعلتُ ذكرَ كلِّ واحد منهم في الوضع الأَليَق به على حسب طبقاتهم ومراتبهم”.

المراجع