خالَفَ ابنُ النَّفيس مُتَقدِّمِيه وصَحَّح نَظريَّتهم في الدَّورانِ الدَّموي، وخطَّأ جالينوسَ وابنَ
سينا، وانتقدَهما بآراء صَريحة لا تَقبَل الشكَّ ولا يكتنفها الغُموض، وذلك في كلامِه عن تَشريح القلب.
يقولُ ابنُ النَّفيس: “وقولُه – أي قول ابن سينا – (وفيه ثلاثةُ بُطون … إلى آخره) هذا الكلامُ لا يَصِحُّ، فإنَّ القلبَ له بُطَينان فقط: أحدُهما مملوءٌ من الدَّم وهو الأيمن، والآخرُ مَملوءٌ من الرُّوح وهو الأيسر. ولا منفذَ بين هذين البُطَينين البتَّة، وإلاَّ كانَ الدَّمُ ينفذ إلى موضع الرُّوح فيُفسِد جوهرَها. والتَّشريحُ يكذِّب ما قالوه، والحاجِزُ بين البُطَينين أشدُّ كثافةً من غيره، لئلا ينفذ منه شيءٌ من الدَّم أو من الرُّوح فتضيع. فلذلك، قولُ من قال: إنَّ ذلك الموضعَ كثيرُ التخلخل باطِلٌ. والذي يُوحيه له ذلك ظنُّه أنَّ الدمَ الذي في البُطَين الأيسر إنَّما ينفذ إليه من البُطَين الأيمن من هذا التَّخلخل باطِلٌ، فإنَّ نفوذَ الدَّم إلى البطين الأيسر إنَّما هو من الرِّئة بعدَ تَسخُّنه وتَصعُّده في البطين الأيمن، كما قرَّرنا أوَّلاً” (ابنُ النَّفيس ـ شرحُ تَشريح القانون).
ويؤكِّد في مكانٍ آخر أنَّ اتِّجاهَ الدَّم في دورانه واحدٌ وثابت، أي أنَّه يَمرُّ من التَّجويف الأيمن إلى الرِّئة، حيث يخالط الهواء، ومن الرِّئة إلى التَّجويف الأيسر.
فيَقول: ” قولُه – أي قول ابن سينا – وإيصال الدَّم الذي يغذِّي الرئة إلى الرئة من القلب – ويقصد القلبَ الأيسر- هذا هو الرأيُ المشهور، وهو عندنا باطِل، فإنَّ غذاءَ الرِّئة لا يصل إليها من هذا الشِّريان – ويقصد الشِّريانَ الوَريدي – لأنَّه، لا يرتفع إليها من التَّجويف الأيسر من تجويفي القلب، إذ الدَّم الذي في هذا التجويف إنَّما يأتي إليه من الرِّئة لا أنَّ الرئة آخذةٌ منه، وأمَّا نفوذُ الدَّم من القلب الذي في هذا التجويف إنَّما يأتي إليه من الرئة لا أنَّ الرئة آخذة منه. وأمَّا نفوذُ الدَّم من القلب إلى الرِّئة فهو في الوريد الشريانِي” (ابنُ النَّفيس ـ شرحُ تَشريح القانون) ( وهو الوريدُ الرئوي الذي ينقل الدمَ من البُطَين الأيمن إلى الرِّئة عبر الأُذَين الأيمن).
نَستَطيع أن نستخلصَ ممَّا تَقدَّم من أقوال ابن النَّفيس في دوران الدَّم في القلب والرئة ما يأتي:
وجوب مرور الدَّم من البُطَين الأيمن، بعدَ تَلطُّفه وترقُّقه، إلى
الرئة بواسطة الوريد الشريانِي ( الشِّريان الرئوي)، لينبثَّ في جُرمِها ويخالط الهواءَ الآتي من الأنف والفم.
انتقال الدَّم المصفَّى والمخالِط للهواء من الرِّئة إلى البطين الأيسر بواسطة الشِّريان الوريدي (الوريد الرئوي) .
تَولُّد الرُّوح في البطين الأيسر.
عدم جَواز مُرور الدَّم من البُطَين الأيمن إلى البُطَين الأيسر، رأساً، عبر المنافِذ الوهميَّة الكائنة في الحاجز بين البطينين، والتي أنكرَ وُجودَها وكذَّبه تكذيباً قاطِعاً.
اتِّباع الدَّم في سيره وجهةً ثابتة، فهو يصعد من البُطَين الأيمن إلى الرِّئة، ويختلط بالهواء، ثم ينفذ إلى البُطَين الأيسر، حيث تتولَّد الروحُ التي يوزِّعها الأبهرُ بدوره على الجسم كلِّه.
نَفي رجوع الدَّم من البُطَين الأيسر إلى الرِّئة.
وبهذا، نستطيع أن نقولَ بكلِّ قوَّة وحزم: إنَّ الطَّبيبَ العربِي المسلم ابن النفيس كانَ أوَّلَ من وصفَ الدَّورة الدموية في القلب والرِّئتين وصفاً صحيحاً، وذلك قبلَ العالم الإنكليزي وِليَم هارفي الذي يُعزَى إليه اكتشافُ الدَّورة الدَّموية بأربعة قُرون.