عرفَ العلماءُ العرب والمسلمون أنَّ العنايةَ الصحِّية للإنسان تشمل العنايةَ بالإنسان السَّليم والعنايةَ بالإنسان المريض، وأطلقوا على الأولى حِفظَ الصِّحَّة، وعلى الثَّانية إعادةَ الصحَّة، وقدَّموا حفظَ الصحَّة على إعادتها، فقالوا: إنَّ حفظَ صحَّة الشيء الموجود أجلُّ من طلب الشيء المفقود.
وقد شملت العمليَّاتُ الوقائية Preventive medicine عندَ الأطبَّاء العرب، كما حدَّدها ابنُ سينا، معالجةَ الأسباب من المآكل والمشارب والأهوية والمياه والبلدان والمساكِن والاستفراغ والاحتقان والصناعات والعادات والحركات البدنيَّة والنفسيَّة والسُّكونات والأسنان والأجناس والواردات على البدن من الأمور الغريبة.
ويمكننا أن نُصنِّفَ تدابيرَ حِفظ الصحَّة التي وردت عند الأطباء العرب والمسلمين كما يلي:
أوَّلاً ـ تَدابير إصلاح البيئَة: وتشتمل على إصلاح المياه، وإصلاح الهواء، وإصلاح المساكن، ومكافحة الهوامِّ والحشرات.
ثانياً ـ التَّدابير الخاصَّة بعادات الإنسان من المأكل والمشرب والنَّوم والرياضة والاستحمام والجِماع.
ثالثاً ـ التَّدابير الخاصَّة بالأعمار المختلفة من الولادة وحتَّى الشَّيخوخة.
رابعاً ـ التَّدابير الخاصَّة بالفصول.
خامساً ـ التَّدابير الخاصَّة بمكافحة الأمراض الوبائية.
سادساً ـ التَّدابير الخاصَّة بحفظ صِحَّة الأعضاء: كالعين والأذن والأسنان … إلخ.
ونذكر باختصار بعضَ الأمثلة على هذه التَّدابير الوقائيَّة التي وردت في السنَّة النبويَّة وعندَ أعلام الطبِّ العربِي؛ حيث أنَّ المرءَ ليقف مَبهورًا أمامَ عظمة التَّوجيه النَّبوي الذي يَحدُّ من انتشار الأمراض في المجتمع، إذا يقول صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه البُخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: {لا يُورِدنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ} (رَقم الحديث 5437 في البُخاري). كما يَقولُ في أمر مرض الجُذام الخطير مثلاً، مثلما جاء في البُخاري ومُسنَد الإمام أحمد عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه: {فِرَّ من المَجذوم فِرارَك من الأَسَد} (رقم الحَديث 9429 في مُسنَد الإمام أحمد، واللفظُ لأحمد)، ثمَّ يضع أعظمَ قواعِد الحَجر الصحِّي بالنسبة للأوبئة الخَطيرة كالطَّاعون، وذلك كما روى مُسلِم عن أُسامة بن زيد رضيَ الله عنهما أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يتحدَّث عن الطَّاعون فقال: {إذا كانَ بأرضٍ وأنتم بها فلا تَخرُجوا منها، وإذا بلغكم أنَّه بأرضٍ فلا تَدخلوها} (رقم الحديث 2218 في صَحيح مُسلِم)، فهو بذلك يوضح لنا أبسطَ وسائل الوقايَة من الأمراض وأنجحها في ذات الوقت.
وقد صنَّفَ البَلخيُّ ـ الذي يُعدُّ أوَّلَ من تَكلَّم عن حِفظ الصحَّة في عصر التَّأليف الطبِّي ـ كتاباً خاصاً في حفظ الصحَّة سَمَّاه “مصالحَ الأبدان والأنفس”، قسَّمه إلى مقالتين: مصالح الأبدان، ومصالح الأنفس. وابتدأ بابَ الاستحمام – الذي تكلَّم عنه في المقالة الأولى – بذكر فوائد الحمَّام، فقال: “والحمَّامُ قد جمعَ إلى مرافقِ الماءِ الحارِّ مرافقَ الهواءِ الحارِّ الذي يفتحُ مسامَّ الجسدِ، ويُجري معها بالعَرَقِ الرُّطوبةَ الفجَّةَ المتولِّدةَ عن فضولِ الطعامِ والشرابِ، ويحتاجُ إلى معونةٍ مِن خارجٍ ليجتذبَها وينقِّيَها عَن البَدَنِ، لئلاَّ يبقى فيه فيؤدِّي إلى ضربٍ مِن ضُروبِ العللِ. والحمَّامُ مِن أعونِ الأشياءِ على إخراجِ تلك الفضولِ، ولذلك يجدُ الإنسانُ الخفَّةَ في بدنِهِ عندَ خروجِهِ منه لانفشاشِها عن جسدِهِ بالأبخرةِ والعَرَقِ اللَّذينِ يخرجانِ مِن مسامِّهِ؛ فالحمَّامُ – كما قلنا – يجمعُ إلى مَنفعةِ الماءِ الحارِّ منفعةَ الهواءِ الحارِّ الذي يَفتحُ مسامَّ البدنِ ويُحلِّلُ فضولَه، وبهذينِ المرفقينِ يكونُ تَمامُ نقاءِ البدنِ مِن داخلٍ. وهو يَجمعُ إلى نقاءِ البدنِ مِن داخلٍ نقاءَهُ مِن خارجٍ، وتنظيفَهُ منَ الأدرانِ التي تجتمعُ، والأوساخِ التي تتركَّبُ عليهِ، فتخلُصُ إليه لذَّةٌ نفسانيَّةٌ …” (البلخيُّ ـ مَصالِحُ الأبدان والأنفُس).
وقد حدَّد الرَّازي في تدبير المطعم الوقتَ المناسب للطعام فقال: “ينبغي أن يطعمَ الإنسانُ إذا نزل ثقلُ الطعام المتقدِّم، وخفَّت الناحيةُ السفلى من البطن ولم يبقَ فيها تمدُّد … وثارت الشَّهوة؛ وينبغي ألاَّ يدافع بالأكل إذا هاجت الشهوة، إلاَّ أن تكونَ شهوةً كاذبة كالتي تَهيج بالسُّكارى والمُتَخمين” (الرَّازي ـ المَنصوري).
ثمَّ أضافَ قائلاً: “وممَّا يَسوء به الهضمُ ويفسد أن تُؤكَلَ أغذيةٌ مختلفة في وقتٍ واحد، وأن يُقدَّم الغذاءُ الأغلظ قبلَ الأرقِّ الألطف، أو أن يُكثِر الألوان ويَطول الأكلُ جِداً حتَّى يَسبقَ أوَّلُه آخرَه بوقتٍ طويل” (الرَّازي ـ المَنصوري).
ويتكلَّم ابنُ سينا عن الأثر المفيد للرياضة فيقول: “الرياضةُ هي حركةٌ إرادية، تضطرُّ إلى التنفُّس العظيم المتواتر، والموفَّقُ لاستعمالها على جهةِ اعتدالها في وقتِها به غَناءٌ عن كلِّ عِلاج تقتضيه الأمراضُ المادِّية والأمراضُ المزاجية التي تَتبعها وتحدث عنها …” (ابنُ سينا ـ القَانون).
ويُضيف مُفصِّلاً فوائدَ الرياضة: “ثمَّ الرياضةُ أمنعُ سببٍ لاجتماع مبادئ الامتلاء ـ إذا أصبتَ في سائر التَّدبير معها ـ مع إنعاشها الحرارةَ الغريزيَّة وتعويدها البدنَ الخفَّة، وذلك لأنَّها تثير حرارةً لطيفة، فتحلِّل ما اجتمعَ من فضل كلَّ يوم، وتكون الحركةُ مُعينةً في إزلاقها وتوجيهها إلى مَخارِجها، فلا يجتمع على مرور الأيَّام فضلٌ يُعتدُّ به. ومع ذلك، فإنَّها تُنمِّي الحرارةَ الغريزية وتُصلِّب المفاصلَ والأوتار، فيقوى على الأفعال فيأمَن الانفعال، وتعتدُّ الأعضاءُ لقبول الغذاء بما يُنقِص منها من الفضل فتلين الأعضاءُ وترقُّ الرُّطوبات وتتَّسع المسام …” (ابنُ سينا ـ القَانون).
أمَّا ابنُ رضوان فيتكلَّم عن أسباب الوباء قائلاً: “ومعنى المرض الوافِد أن يعمَّ خلقاً كثيراً في بلدٍ واحد وزمان واحد. ومنه نوعٌ يُقال له المُؤتان، وهو الذي يكثر معه الموتُ. وحدوثُ الأمراض الوافدة يكون عن أسبابٍ كثيرة تُجمَع في الجملة في أربعة: تغيُّر كيفيَّة الهواء وكيفيَّة الماء وكيفيَّة الأغذية وكيفيَّة الأحداث النَّفسية” (ابنُ رَضوان ـ رسالةٌ في الحيلَة في دفع مضارِّ الأبدان بأرض مصر).
ثمَّ يُفصِّل في هذه الأسباب فيقول مثلاً عن الهواء: “وإمَّا أن يكونَ تغيُّرها تَغيُّراً خارجاً عن العادة، فيحدث المرض الوافد. وخروجُ تَغيُّر الهواء عن عادته يكون إمَّا أن يسخنَ أكثرَ أو يبرد أو يرطب أو يجفِّف أو يخالطه حالةٌ عفنيَّة، والحالةُ العفنيَّة إمَّا أن تكونَ قريبةً أو بعيدة … وقد يتغيَّر أيضاً مزاجُ الهواء عن العادة بأن يصلَ وفدٌ كثير قد أنهك أبدانَهم السَّفرُ وساءت أخلاطُهم، فتخالط الهواءَ منها شيءٌ كثير ويقع الوباءُ في الناس ويَظهَر المرضُ الوافد” (ابنُ رَضوان ـ رسالةٌ في الحيلَة في دفع مضارِّ الأبدان بأرض مصر).
ثم يُخصِّص فصلاً يتكلَّم فيه عن إصلاح رداءة الهواء والماء والغذاء بأرض مصر.
وأخيراً، فإنَّ المكانةَ البارزة التي أعطاها الأطبَّاءُ العرب والمسلمون لشؤونِ الوقاية وحِفظ الصحَّة لتدعو إلى الفَخر من جهةٍ وإلى الدَّهشة من جهةٍ أخرى، لاسيَّما في عصرٍ لا تزال ترتفع فيه الأصواتُ التي تنادي بحماية صحَّة الإنسان ووقايتها من الأخطار البيئيَّة والآفات الجسميَّة والنَّفسية والأخلاقية التي نتجت عن تَسارُع التطوُّر الحَضاري.