هي الأمراضُ التي تَتَظاهر باضطراباتٍ في النَّفس والسُّلوك، ومنها اختلالُ العقل (الجنون Insanity) والهَذَيان Onirism والهَوَس (المانيا Mania) والسَّوداوية (المالينخوليا
Melancholia) والوَسواس Obsession.
وأضافوا إليها مرضَ العِشق Love Sickness الذي عَدُّوه، في بعض الحالات، مَرَضاً نفسياً.
كان يُنظَر إلى الأمراض العقلية أو النفسيَّة، منذ أقدم الأزمنة، على أنَّها أفعالُ الجنِّ التي تتلبَّس المرضىَ العقليين. ولذا كانت معالجتُها تعتمد على السِّحر والرقى والتَّعاويذ.
أمَّا معالجةُ اختلال العقل (الجنون) فكانت تَقومُ على تَعذيب المريض وضَربه وتَجويعه، وتقييده بالسَّلاسل وعزله عن المجتمع، للتخلُّص من الجنِّي المتلبِّس به. وبهذه الوسائل، يخرج الجنِّي من رأس المريض، ويولِّي هارباً من تلك المعاملة القاسية.
إلاَّ أنَّ الأطبَّاء العرب والمسلمين صحَّحوا هذه المفاهيمَ وعَدُّوا الأمراضَ العقليَّة اضطراباتٍ عضويةً، مثلها مثل باقي الأمراض التي تَعتَري َأعضاء الجسم؛ وهي، في هذه الحالة، إصابات عضوية تطرأ على الدِّماغ.
ولذلك، راحوا يُعالِجونها بالأدوية المهدِّئة، والراحة المطلقة، والرِّياضة المنشِّطة، والموسيقا، والغناء، والمعاملة الإنسانيَّة الرَّحيمة. كما كانوا يُخصِّصون للمرضى المهتاجين حجراتٍ خاصَّةً في المستشفيات تتوفَّر فيها أسبابُ الرَّاحة والهدوء والطُّمأنينة، ويشرف عليها أطبَّاء رحماء وممرِّضون وخدم متدرِّبون.
وقد بَرَعَ الأطبَّاءُ العرب في بحث الاضطرابات التي تطرأ على العقل، وأَجادوا في وصف أعراضها وعلاماتِها.
وقد أَدركَ الأطبَّاءُ المُسلِمون أهمِّيةَ الرِّعاية الصحِّية والنَّفسية والاجتماعيَّة للمريض، فكانت دورُ الرِّعاية النَّفسية منتشرةً في كلٍّ من دمشق وبغداد والأندلس، وكانَ العلاجُ بالعمل والموسيقى من الأساليب العلاجيَّة الشَّائعة في هذه الأماكن التي كان يُطلَق عليها تسمية البيمارستانات، وكانت تَهدفُ إلى إعادة الاستقرار والتَّوازُن للمرضى نفسياً.
ويبدو أنَّ الطَّبيبَ الفَرنسي المُسمَّى “أبو الطبِّ النَّفسي الحديث” بينيل Pinel (1745-1820 م) قد كانَ مطَّلعاً ومتأثِّراً بأساليب الرِّعاية والعلاج التي كانت متَّبعةً في العالم الإسلامي؛ ففي إحدى كتاباته العائِدَة إلى عام 1819 م، أشارَ إلى أنَّه في عام 1425 م جرى في مدينة سَرَقُسطَة الإسبانيَّة إنشاءُ مِصحَّة للأمراض العقليَّة تحت شِعار الصحَّة للجميع، وكانت هذه المصحَّةُ تتَّبع أسلوبَ المعالجة بواسطة العَمَل الزِّراعي. وكانت مثلُ هذه المصحَّات منتشرةً في أنحاء عديدة من الأندلس.
كما كانت لقُدامى الأطبَّاء العرب والمسلمين لهم دِرايةٌ وخبرة في معالجةِ هذه الأمراض وإنقاذ المصابين بها بالوسائل السَّالفة الذِّكر، وبما نسمِّيه اليومَ “التَّحلي النَّفسي psychoanalysis”.
ومن ذلك ما رُوِيَ عن ابن سينا الذي عالَج مَريضاً كان يَعتقِد بأنَّه “بقرة”، “وكان يطلب من ذويه بإلحاح أن يَذبَحوه، فانقطعَ عن الأكل لأنَّهم رفضوا أن يفعلوا ذلك، فضعف كثيراً وأقلقَ الأهلَ والجيران بِخُواره وصُراخه. وطلب أهلُه أن يتولَّى ابنُ سينا أمرَه، فأرسل إليه من يخبره بأنَّه قادمٌ ليذبحه استجابةً لطلبه. ولمَّا حضرَ ابنُ سينا وفي يده السكِّين، أمرَ بربط يدي المريض ورجليه، وطَرحَه على الأرض ليذبحه. ولمَّا همَّ ابنُ سينا بالذَّبح، جَسَّ عضلاتِ المريض جسَّاً دقيقاً، ثمَّ التفتَ إلى أهله وقال لهم بصوتٍ جَهُوري: إنَّ هذه البقرةَ ضعيفةٌ جداً، ويجب تَسمينُها قبلَ ذبحها؛ فأخذَ المريضُ من تلك الساعة يأكل بشهيةٍ زائدة ليسمن، فقَوِيَ جسمُه وتركَ وهمَه وشُفِي من مرضه شفاءً تاماً” (النظامي العروضي السَّمرقندي ـ جهار مقالة (ترجمة عزَّام والخشَّاب).
ومِمَّا يُروى أيضاً عن أبي البركات هبة الله علي بن ملكا: “أنَّ مَريضاً ببغداد كان قد عرضت له عِلَّةُ المالينخوليا، وكان يعتقد أنَّ على رأسه دَنَّاً وأنَّه لا يفارقه أبداً؛ فكان كلَّما مشى يتحايد المواضعَ التي سقوفُها قصيرة، ويمشي برفق، ولا يترك أحداً يدنو منه، حتَّى لا يميل الدَّنُّ أو يقع عن رأسه. وبقي في هذا المرض مدَّةً، وهو في شدَّةٍ منه. وعالجه جماعةٌ من الأطبَّاء ولم يحصل بمعالجتهم تأثيرٌ يَنتفِع به.
وأُنهِي أمرُه إلى أبِي البركات الذي عالَجه من وهمه بأن أمرَ غلاماً أن يضربَ بعصا من فوق رأس المريض، وأمرَ غلاماً آخر أن يرمي بذات الدَّقيقة دَنَّاً وراءَ هذا المريض.
فلمَّا عاينَ المريضُ ما فُعِل به، ورأى الدَّنَّ المنكسر، تأوَّه لكسرهم إيَّاه، ولم يشكَّ بأنَّه الذي كانَ على رأسه بزَعمِه، وأثَّر فيه الوَهمُ أَثَراً، وبَرِئ من عِلَّته تلك” (ابنُ أبِي أُصَيبِعَة ـ عُيُون الأنباء).
ولابن سينا طريقةٌ مَشهورة في تشخيص العِشق وعلاجه، وهي تشبه ما نسمِّيه اليومَ طريقةَ كشف الكذب.
يقول ابنُ سينا عن العشق: “هذا مرضٌ وَسواسي يُشبِه المالينخوليا، يكون الإنسانُ قد جلبه إلى نفسه … فيتغيَّر نبضُه (ويقصد العاشِق) وحالُه عند ذكر المعشوق خاصَّة، وعند لقائه بغتةً، ويمكن من ذلك أن يُستدلَّ على المعشوق من هو إذا لم يتعرَّف به، فإنَّ معرفةَ المعشوق تسهل علاجَ المريض … والحيلةُ في ذلك أن تذكرَ أسماء كثيرةً تُعاد مراراً وتكون اليدُ على نبضه، فإذا اختلفَ بذلك اختلافاً عظيماً وصار شبهَ المنقطع، ثمَّ عاود، وجرَّبت ذلك مراراً علمت أنَّه اسمُ المعشوق. ثمَّ تَذكر كذلك السككَ والمساكِن والحِرَف والصِّناعات والنسب والبلدان، وتضيف كلاًّ منها إلى اسم المعشوق ويَحفَظ النبضَ حتَّى إذا كاد يتغيَّر عند ذكر شيء واحد مراراً، جَمعتَ من ذلك خواصَّ معشوقه من الاسم والمحلَّة والحرفة وعرفته؛ فإنَّا قد جرَّبنا هذا واستخرجنا به ما كان في الوقوف عليه منفعةٌ. ثم إن لم تجد علاجاً إلاَّ تدبير الجمع بينهما على وجه يحلُّه الدين والشريعة فعلتَ” (ابنُ سينا ـ القانون).