راحة أجهزة الجسم في أثناء الصيام

يتردَّد في بعض الكتابات أنَّ أجهزةَ الجسم في الصيام “ترتاح” ويخفُّ العبءُ عنها، وبذلك تستعيد نشاطَها وتتجدَّد قوَّتها، تماماً كالآلة التي تعمل ليلَ نهار, ثمَّ يوقفها صاحبها عن العمل برهة من الزمن، ويرون أنَّ هذا من الفوائد الكبيرة للصيام.

سنقوم في هذا المبحث باستبيان رأي الطبِّ الحديث في هذا الكلام، وبالذات علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا). ولكن قبلَ الخوضِ في ذلك، لا بدَّ من توضيحِ بعض النقاطِ والمفاهيمِ الضروريَّة للقارئ.

 

تمهيد عام

ظلَّ الأطبَّاء القُدامى على مرِّ التاريخ يَرَون الصِّيامَ من أهمِّ المُعالجات المتاحَة لكلِّ فرد؛ ثمَّ لَمَّا جاء الطبُّ الحديث، خفَّ الاهتمام بالصيام، ولم يُدرَج في كتب الطبِّ المعتمدة. لكنَّ أنصارَ الطبِّ البديل في هذا العصر أعادوا بعثَ الصيام من جديد، على طريقتهم في البحث عن وسائل علاجية خارجة عن دائرة الطب المعاصر.

وللأسف، فإنَّ كثيراَ ممَّا كتبه أنصارُ الطبِّ البديل عن الصيام هو كلام نظري مجرَّد، مبنيٌّ في الغالب على تجارب شخصية أو دراسات ضعيفة، ولا تدعمه في الغالب بحوثٌ علمية تجريبية موثَّقة.

ولهذا، فإنَّ من الواجب على أطبَّاء المسلمين المتخصِّصين أن يَدلوا بدَلوِهم في الموضوع وأن يُجروا الأبحاثَ العلمية، ويجمعوا ما قيل عن منافعَ وآثار صحِّية للصوم, ويقوموا بتصنيفها وترتيبها، ثمَّ يعرضونها على البحث العلمي المجرَّد.

اتِّجاهان للتعامل مع الصيام؟!

هناك اتِّجاهان للتعامل مع الصيام، أحدهما الطبُّ البديل الشعبي، والثاني الطبُّ الحديث المعاصر.

فأمَّا المهتمُّون بالطبِّ البديل (الشعبي)، فإنَّهم يرون الصيامَ واحداً من أهمِّ الأساليب العلاجية في الطب, حتَّى كتبوا فيه كتباً ومقالات ومجلات، وأنشأوا له مواقعَ إنترنت وفتحوا عيادات بالكامل تعالِج بالصوم.

وأمَّا الطبُّ الغربي الحديث فإنَّه يقف موقفَ المتحفِّظ، ولا يدرج الصيامَ كوسيلةٍ علاجية معترفاً بها, وإنَّما يَعدُّها أحدَ أنواع العلاج البديل أو الشعبي, تماماً كالإبر الصينية والأعشاب. ولهذا لا تجد في مراجع الطبِّ الحديث المعتمَدة إشارةً إلى الصوم كعلاج لأيِّ مرض من الأمراض . وهذا الأمرُ يبدو مستغرَباً، لكنَّه هو الواقع حالياً.

ونحن هنا لن ننجرفَ وراءَ اندفاع أصحاب الطبِّ البديل، كما لن نتأثَّرَ بتحفُّظ الطبِّ الحديث، ولكن سنَجري مع البحث العلمي والبرهان!

كلمةٌ قبل البدء ..

لابدَّ من التأكيد على أنَّ الصومَ عبادةٌ جليلة في أصله، ولم يُشرَع لمنافعه الصحِّية، إنَّما شُرِع لإظهار حالة العبودية لله تعالى، ودعوة الناس للتخفُّف من الدنيا.

كما أنَّه لابدَّ من الإشارة إلى أنَّ شهرَ رمضان لا يشمل الصيامَ فقط، لكنَّه يشمل مع ذلك عدداً أكبر من الصلوات ووقتا أطولَ لقراءة القرآن، وتغييراً في نظام النوم، وربَّما قلَّة في الحركة والنشاط في الصباح. ولكلِّ واحدٍ من هذه العوامل أثرٌ من قريب أو بعيد على الصحَّة.

مَنافعُ الصيام ليست لكلِّ صائم!

ومن أدلَّة ذلك أنَّنا نرى في العيادة أناساً من مرضى الجهاز الهضمي ينفعهم الصيامُ، وآخرين يُؤذيهم أيَّما إيذاء. والحاجةُ ماسَّةٌ لإجراء بحوثٍ علمية تجريبية موسَّعة على كافَّة شرائح الناس.

وتشريعاتُ الإسلام يجب ألاَّ يكونَ فيها ضررٌ في الجملة, نعم قد يكون فيها مجاهدة للنفس, وامتناع عن بعض ما يحبُّ الإنسان, لكن ليس فيها إطلاقاً ما يضرُّه.

 

رأي الطب

لقد تبيَّن أنَّ بعضَ الأجهزة يخفُّ نشاطها بالصيام، وبعضها قد يزداد.

البطن مرتاح!

إنَّ نشاطَ الجهاز الهضمي يقلُّ في أثناء الصيام بشكلٍ ملحوظ، حيث تقلُّ مُفرَزات المواد الحامضة، وتقلُّ حركةُ المعدة والأمعاء، وترتاح زغيباتُ الامتصاص من الجهد الكبير الذي نفرضه عليها قسراً كلَّما أكلنا أو شربنا، ولاشكَّ أنَّ هذا يعدُّ راحةً لهذا الجهاز العظيم.

لكن … هل لهذه الراحة فوائد صحِّية مثبتة علمياً؟

يبدو ذلك في أمورٍ، منها:

تخفيف مستوى الحوضة في المعدة والمريء، فإنَّه من المعروف أنَّ المُفرَزات تزيد مع الأكل. وزيادة مستوى الحموضة مرتبطٌ بكثير من مشاكل الجهاز الهضمي وأمراضه.

تقليل تهييج زغيبات الامتصاص في الأمعاء، وهناك دراساتٌ أوَّلية غير مُثبَتة تشير إلى احتمال أنَّ هذه الراحة للزغيبات قد تقلِّل من نسبة الإصابة بسرطانات الأمعاء.

وهل يرتاح القلب والتنفٌّس!

إنَّ نشاطَ القلب أو راحته مرتبطٌ بالعموم بالحالة العامَّة للجسم، ومرتبطٌ بشكل كبير بضغط الدم وحجمه في الجسم. كما أنَّ نشاطَ التنفُّس مرتبطٌ، كالقلب، بالحالة العامَّة للجسم، ومرتبط كذلك بمعدَّل الاستقلاب في الجسم Metabolic rate.

وبناءً على هذه المعلومات العلمية المثبَتة في كتب الفيزيولوجيا، وبناءً على هذه الدراسات العلمية، يتبيَّن أنَّه في آخر ساعات الصيام قد يقلُّ نشاط القلب والجهاز التنفُّسي، لكن بشكل طفيف.

أمَّا الكلى والكبد، فلا!

يبدوا أنَّ الجهدَ على الكلى والكبد في أثناء الصيام يبقى كما هو، وربَّما يزيد العبء عليهما!.

فالكبدُ مطالبةٌ بتوفير مصادر الطاقة اللازمة، سواءٌ أكان ذلك في حال الصيام أم في حال الشبع. نعم، في حالة الصيام قد يقلُّ جهدُ الكبد في تصفية السموم والمواد الضارَّة Detoxification التي قد تأتي مع الغذاء. وهذا صحيحٌ، وقد يعطي الكبد شيئاً من الراحة من هذا الجانب.

كما تقوم الكلى بجهدٍ كبير في أثناء الصيام لضبط كمِّية البول، بحيث لا تزيد كميةُ البول الخارج عن كمِّية الماء الموجود في الجسم.

وفي كلِّ الحالات فالوضعُ سليم!

لكن في كلا الحالتين، فإنَّ الوضعَ في الصيام الإسلامي يعدُّ وضعاً طبيعياً يقدر الجسمُ على التعامل معه بكفاءة واقتدار دون أيَّة مضاعفات، وذلك نظراً لقصر مدَّة الصيام. أمَّا في الصيام المديد الطويل، فإنَّ الوضعَ يختلف، ولذلك لا تسمح كثيرٌ من الدول لأصحاب الطبِّ البديل لديها بعلاج الناس بالصيام المديد إلاَّ بوجود إشراف طبي، ليتابع حالةَ الصائمين!.

 

 

المراجع

صحة الصائم

د. خالد الجابر